قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
مقالات الأستاذ حسين المحروس
 
جـنّــــــة الحــــواس
حسين المحروس - 2004/07/22 - [الزيارات : 6962]
جـنّــــــة الحــــواس
حسين المحروس



يَهدأ الحَمامُ في الشتاء، وينفشُ ريشه حتى يدخل فيه. يُكثرُ من الصمت بعينين باسمتين لكنّه لا يملّ الطرد، والتنفّش لحمامته. ينفض ذنبه ويتكبّر، ويستخفُّ به الطرب، يدبُّ فيه النشاط فلا يسع مرحه إلا فضاءُ الحيّ. أيّها البحراني تجرُّ عروسَك شتاءً إلى جنّتك غير الدافئة جرّاً، ولا يفعلُ الحمام ذلك. ينقلبُ ولا تنقلبُ عروسك. أليس الحيّ ينقلب؟ كلّما ثابرت أجساد نسوتُك في التصنّم، والغياب، فرّ أقرانك بحواسهم المؤجلة إلى الحيّ الشرقي جسداً جسداً، شهوةً شهوة. وعندما يعبرون آخر قدم من صندوق حيّك الغائب يتألقون.. سفراء الجسد كلّهم يجوزون فلا تخذلهم حواسهم.. لا حزن عليهم اليوم، ولا ضجر، إنّهم آخرون.... إنّهم في جنّة الحواس.
يُحسِنُ الحَمامُ الاهتداء إلى أوطانه في النهار، وقد يضلّ في ليل لا ماء فيه، لذا لا يُسرّح (حسن السيد) حماماته إلا في ضوء. أقرانك العائدون مثقلون متثائبون من الحيّ الشرقي يضلون بيوتهم ليلاً ونهاراً.. لا يضلّ إلا مَنْ أُثقل، أو خرج فيه كلّ شيء على كلّ شيء.. لا يضلّ الماء مجراه إلاّ إذا فاض، وأقرانك يضلون وليس في أجسادهم من الشهوة إلا ذاكرة طوابير الحيّ المجاور... طريقُ الماء طريقُ الحمام، فكيف يستدل ليلا ولم يكّ في الحيّ ماء؟ الماءُ دخيرة لجنّة الحواس. ألم أقل لك: أنّهم آخرون..زقرتيون.. كلّما اتجهوا نحو الحيّ الشرقي صاروا خفافاً، لكلّ واحد منهم سيرتان: سيرة للنهار، وسيرة لجنّة الليل. آباء في النهار لفتية لا تحلم، وكائنات مائية في الليل.
كلّما تجمّعَ الحّمامُ، والتفّ بعضُه على بعضٍ، وضاقَ به الحيّ، صارَ أشدّ طيراناً ومرحاً.. كلّما اسودّ الحيّ طار رجاله إلى الحي الشرقي.. صاروا زقرتيين يتطاير دهن العود من ثيابهم النظيفة الجميلة فتضيق بها أزقة الحيّ.. عطور تضيع في الحيّ وليس ثمّة عرس؟ يخرجون من قبورهم واحداً واحداً باتجاه الشرق.. لا يعرفون جهة أخرى.. كلّما غادرت الشمس مكاناً كانوا فيه.
ينتهي العشاء فيهدأ الحيُّ. تنتهي رائحة الأطعمة وصوت أواني الطبخ المعدنية، وتبدأ رائحة التتن، تنبعثُ من جدران لا تحجب الرائحة ولا تخنق الصوت. الطرقات والأزقة مفتوحة على الكلام. تعتمُ نسوةٌ في البيوت المتلاصقة القريبة من بيوتهن.. الليلُ أحاديث.. لا تتأخر النساء في عتماتهن كثيراً، وعندما يرجعن برائحة التتن إلى بيوتهن لن يجدن رجالهن. يخرجُ الرجالُ الزقرتيونَ كأنّهم في ليلة عُرس. ينظرُ بعضهم في ساعته، ولن يفعل ذلك عند العودة.. ساعة العودة ساعة الثِقل في الجسد.. فالحمام الزاجل الذكر لا يُوصل رسالته إذا ما صادف حمامة.. سيأتلف بها حتماً.
تأوي النسوة إلى أسرتهن الخشبية القاسية، المرتفعة عن الأرض الرطبة كثيراً بانتظار أعمال الفجر، لا بانتظار أزواجهن الزقرتيين. ليس في الحيّ غير نواطيره التوّاقين للسَمر بصحبة شايٍ وأحاديث، بينما يعود رجال الحيّ منفردين متعبين واحدا واحدا.. غالباً ما يكون الفوتوغرافي الوحيد في الحيّ أحمد العكّاس آخر العائدين، يترنم بأغانٍ هندية. ربّما يسلّي نفسه، أو يُطرب أشباح الحيّ، الذين لا يراهم الآن سواه. يعرفه النواطير فلا يعترضون طريقه.. إنّه أحمد العكّاس، وليس من الأشباح الذين يتركون أطفالاً رضعاً في كوارتين موز على مشارف الحيّ، ثمّ يغادرون، ولا من الذين يحرقون بيوت الفقراء؛ ليهجروها.
أيّها البحراني الكَتُوم: لماذا يعرفُ الرجال في حيّك كلّ شيء، ولا تعرفُ النساء أيَّ شيء؟ لماذا عيون النساء هنا كلّها لون واحد؟ ليس للحبّ في حيّك غير سيرة أو سيرتين؟ والرجال لا يغنون في بيوتهم! والأطفال يغنون فتنهرهم أمهاتهم. يصمتون، أو يحزنون. أليس الحزن صمتاً؟
- كان صوتي جميلاً، أعشق الغناء، وأحفظ منه القليل. لم يكن ثمّة راديوهات في الحيّ، لذا كان عليّ المشي شرقاً حيث مقاهي المنامة العديدة. كانت " السحارة " سحر بهجة الصوت، لا تفسد أحاديث الجالسين، وتجعل للشاي مذاقاً سحرياً. جهاز صغيرغطاؤه من الخشب ، يعمل على تشغيل الأسطوانات والقلوب معاً. يعتني النادل به، ويهمّ بتغيير إبرة التشغيل كلما احتاج إلى ذلك، لذا يضع مجموعة إبر في جيبه بينما يهمّ بتوزيع الشاي والطلبات الأخرى . اشتريت واحدة بسعر زهيد.. لم تكن تعمل كسحارة المقهى. وعندما تعمل تضع أمي -رحمها الله- قطنا في أذنيها. كنت أحبّ الغناء ، وكلما غنيت " يا غايبين أهواكم وقلبي دايب ... أحبابي كتار وانتو أهل الحبايب " لوديع الصافي ، تصرخ أمي: " يا عباسوه اسكت لا تقول يا غايبين.. لا تقول ياغايبين ".. أتوقف قليلاً ثمّ أعود للغناء. تستقبل أمي نساء الحيّ عصر كلّ يوم في فناء البيت المفتوح على السماء. يتجمعن فينصبن العزاء على الإمام الحسين بن علي.. كان بيتنا مأتماًً.. كنت صغيرا أجلس على سلم البيت بدشداشتي البيضاء فلا تنهرني النساء. لم يكن يفوتني من المأتم شيئاً، ولا من شاي الزعفران الساخن اللذيذ نقطة.. أصغي لأصوات الملايات وهن يرجعن أصواتهن بالشعر الفصيح تارةً، وبالشعر الشعبي ذي النغمة العراقية تارة أخرى.. وهو أكثر وأطرب لأذني.. يتناوبن على الرثاء واقفات، يتمايلن في غمرة من السواد والدموع. أصواتهن حزنٌ لهن بهجةٌ لي. تقفُ المعلمة أم الحاج مكي بوجهها الأسمر الجاد، فتعرف النسوةُ أنّها ختام المأتم. لا أحد يعرف اسمها، وإذا عرفته امرأة ونادتها به لا تلتفت. وعندما ينتهي المأتم يبدأ الكلام على نية أن لا ينتهي. لا يُنهيه إلا صوتُ المؤذن البصير الحاج أحمد أبو حبيبة. يغادرن البيت فلا يبقى فيه غير رائحة دخان التتن وشاي الزعفران، وأصوات معركة لا تنتهي. تُرتّب أمّي فناء البيت، استعداداً لحزن اليوم التالي. قالت لصاحبتها: ماذا نحتاج في هذه الدنيا غير سماع أم الحاج مكي؟ فترد عليها الصاحبة بآهة طويلة.
لوّنتُ عينيكَ بريش حمامة فارسية.. وضعتُك على قلبي ولا تأتي إليه؟! ضممتك إلى جناحيَّ الصغيرين النافرين، فاهتاج الحمام وقَمُطَ، وأنت غائبٌ محتبس الماء، كأنّ صوت المعركة في أذنيك. نهرَتْكَ أمُّك عن الغياب وأنت تلتذّ به، ولا تعرفُ جهة الحيّ الشرقي وعدد نوارس حيّك التي تحطّ فيه. نوارس للصيف والشتاء. بيوت الحيّ لون واحد في عينيك لا ألوان. أليست البيوتُ ألوانا؟! أكون لك في هيئة الماء، فلا تجيد أن تكون لي في هيئة لونه. حمامةٌ أنا أختلُّ بالوحدة، وأستوحش بالغربة.
أيّها البَحراني الحزين: حيُّك غربةٌ، ساعة يغادره الزقرتيون ليلاً إلى جنّة الحواس، لا يلتفتون.
يسميه رجال حيّك "حيّ الأجاويد"، ويسميه الزقرتيون في حيّك " الحيّ الشرقي"، وإذا نوى أحدهم إخبار زقرت آخر قال له مبتسماً:" الليلة بروح شرق". ويسميه غيرهم " حي قِبلة"، حيث يكون الحيّ باتجاه قِبلتهم، ويُسميه الجميع "حيّ الطوابير"، وحده الزقرت (محسن) يسميه "جنّة الحَواس".
لا أحدَ يعرف من أين جاء هذا الحيّ؟ ولا متى؟ ولا حتى كيف؟ قيل إنّ امرأة صيّرها الزمان عبدة في بيت ذلّ هربت إلى الحيّ فصيرته دفأً للهاربين، وأن اسمها (تمرة)، وقيل إن زوجة شاب لا يملّ لهب الكأس إلا إذا نام، فهربت إلى الحيّ لتصحو، وأن اسمها (مريم)، وقيل إنّ مستعمرين تاقوا لحي (سوهو) فاسسوا شبيهه، ليسهون فيه.
وقيل إنّ عاشقة من تلك الأرض طارت بحبّها خوفاً من أن ينتف أهلها في تلك البلد قوادمه، حطّت في هذا الحيّ فأشعلت جنّة القلوب فيه جنّةً للحواس، وأنّها قليلة الاختيال، صفية البصر، قليلة التلفت، ذات سمو، وأن اسمها (حمامة).
- تُشبه حمام (حسن السيد) يافارسية؟
- لا يا عباس.. حمام (حسن السيد) يُشبهها.
- تُشبه خاتون إذن؟!
- لا.. لكلّ حمامة هيبتها.. لكلّ حمامة اختيالها.. لكلّ حمامة طقوس في الهرب.
لا يَعرفُ أسماء النساء هناك إلا النساء.. لا أحدَ يرى وجوههن، وليس للأسماء وجوه. كلّ شيء فيهن مغطىً بالسواد حتى الصوت. لم تعدْ أصوات النساء ناعمة.. خرجت على طبيعتها.. كانت في حيّ لا يحيا فيه ظلّ امرأة. صوت المرأة عورة.. صورة المرأة عورة..اسم المرأة عورة.. لم أسمع فيه سيرة حبّ مكتملة هناك.

كأنّ الحبّ نيةُ القَصَل...

سير الحبّ مخنوقة، أبطالها أشباح، وملامح وجوه. ويوم تختل امرأة، وتجهرُ بحبّها، يهبها الناس اسماً، وموتاً في آن.. صار اسمها (حمامة) تترقب نتف ريشها كلّ صباح.
وفي يوم طارتْ خفيةً إلى جهة قيل إنّ المحبين فيها لا يموتون. ليستْ المرأة الأولى التي يُصبح ناس الحيّ فلا يجدون غير ما بقي منها من سواد. طارتْ على نيّة غير الرجوع. وليس كلّ حمامة تقوى على الرجعة من حيث أُرسِلتْ. كانتْ الحمامةُ الزاجلُ الوحيدةُ التي تحملُ رسالةً غير مكتوبة.. سيرتُها رسالتُها.. لم تعدْ تذكرُ من اسمها السابق حرفاً.. هي (حمامة)..

صار لاسمها وجه...

ويوم حطّتْ في جنّة الحواس، نَما لها ريشٌ آخر، ليّنٌ في غير رقّة. طالتْ قوادمُها في غير إفراط، وتداخلَ ريشها، ولحقَ بعضُه ببعضٍ. قَصُرَ ريشُ ذيلها دون نتفٍٍ ووهن. قلّ اختيالها، وصفا بصرها، وثَبُتَ نظرها، وندر تلفتها، ولم يبقَ من فزعها شيء.
حطّتْ على كلّ البيوت.. سطحاً سطحاً.. كانت تترك ريشة على كلّ بيت. فلما استعصى صيدها جاء ولد (صفية).. طار معها على كلّ البيوت. شاركها في الكشف فلما خلتِ السطوحُ من الدهشة، وعشق (ولد صفية) حضارة الانتظار، والفرح المؤجّل، ولمْ يتبقَ من ريشه الكثير، وجدها بصحبة كل الحمام الهارب على سطح بيته.

ومَنْ لا يعرفُ (حمامة) في الحيّ الشرقي؟ ومَنْ لا يعرفُ خفّة نهوضها لحظة الطيران، ودفئ جناحيها إذا ضمتهما، وجنون هِزتهما إن ضربتْ بهما زهرة الشفتين؟
أيّها البحراني الحزين: يستأنسُ وحشي الحمام، وعروسك وحشة مؤجلة الأُنس.




طباعة : نشر:
 
يرجى كتابة التعليق هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2024م